لم تحدث نقطة التحول في السياسة الخارجية الروسية على الفور، لكن بحلول منتصف عام 2000، أصبح من الواضح أن سياسة موسكو الهادفة إلى دمج الاتحاد الروسي كقوة عظمى في النظام العالمي المتمركز حول الولايات المتحدة، الذي تأسس بعد نهاية الحرب الباردة، تتطلب تصحيحًا على أقل تقدير. محاولة هذا التصحيح، التي جرت في مطلع عام 2010، تحت شعارات “إعادة ضبط” العلاقات بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة، و”شراكات التحديث” مع ألمانيا ودول أوروبية أخرى، انتهت بالفشل. دفعت الأزمة الأوكرانية عام 2014، أخيرًا، إلى نهاية فكرة اندماج روسيا في المجتمع الغربي، والمشروع ذي الصلة “أوروبا الكبرى من لشبونة إلى فلاديفوستوك”.
بدأ الانهيار في العلاقات بين روسيا ودول الغرب تدريجيًا. لقد أدت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتنافس السياسي، وحرب المعلومات، إلى تحويل الشراكة السابقة إلى مواجهة أطلق عليها الكثيرون مصطلح “الحرب الهجينة”. في فبراير (شباط) 2022، اكتسبت هذه “الحرب الهجينة” بعدًا عسكريًا، وأصبحت مواجهة غير مباشرة حتى الآن. إذا تحدثنا عن الصراع بين روسيا ودول الناتو بقيادة الولايات المتحدة؛ فقد كسرت تمامًا هذه الدول إرث الشراكة، وتبددت الآمال في إعادة تجديدها. لقد أصبح الفراق بالفعل حقيقة واقعة.
فتح الصراع العسكري في أوكرانيا مرحلة جديدة تمامًا في التطور الداخلي لروسيا. تتغير حدود الدولة، والديموغرافيا، والنظام الاقتصادي، والعلاقات الاجتماعية، والحالات المزاجية، والبيئة السياسية، والمواقف الأيديولوجية، وغير ذلك. انتهت فعليًّا “النسخة الأولى” من الاتحاد الروسي الذي تأسس عام 1992، والبلاد في طريقها إلى الانتقال إلى حالة نوعية جديدة، بدأت معالمها بالظهور بالفعل. من حيث حجمها وأهميتها، لا يمكن مقارنة التغييرات في اتجاه السياسة الخارجية بهذه التغييرات الكبيرة داخل البلاد، ولكن بالنسبة للموقف الدولي لروسيا ومكانتها ودورها في العالم، فهي تعني تغييرًا جذريًّا في الظروف الخارجية؛ ومن ثم الأهداف والغايات والإستراتيجية وتكتيكات اللعبة. فيما يلي عدد قليل من أهم التغييرات.
الجديد في المواجهة هذه المرة، حتى بالمقارنة مع الفترة من 2014 إلى 2022، هو التعبئة الجماعية من جانب الغرب ضد روسيا. منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وصلت درجة الوحدة بشأن الموقف الأمريكي المناهض لروسيا في “الغرب الجماعي”، ومع الحلفاء الآسيويين، إلى شكل غير مسبوق. ليس فقط بريطانيا العظمى، وبولندا ودول البلطيق، ولكن أيضًا ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، اتخذت موقفًا مناهضًا لروسيا بشدة. لأول مرة في تاريخ روسيا تصبح بلا أي حلفاء في الغرب، ولا حتى محاورين قادرين على أداء دور الوسطاء. لقد أُعيد ضبط الحياد التقليدي لعدد من الدول الأوروبية تمامًا إلى درجة الصفر. ليس فقط فنلندا والسويد، اللتان قررتا الانضمام إلى حلف الناتو، ولكن النمسا وأيرلندا، وحتى سويسرا، التي ليست عضوًا في أي اتحاد، انضمت بالفعل إلى التحالف المناهض لروسيا. كما أن الفاتيكان إلى جانب هذا التحالف الذي يضم نحو خمسين دولة في العالم.
صحيح أن دول الغرب لم تنجح في تحقيق العزلة السياسية العالمية لروسيا، لكنها تمكنت من استخدام المؤسسات الدولية لصالحها. إلى جانب السيطرة على أجهزة هذه المؤسسات، تمكن الغرب من تحقيق أغلبية الأصوات المؤيدة للقرارات المناهضة لروسيا. نتيجة لذلك، تحولت المنظمات الدولية، التي أدّت موسكو دورًا نشطًا في إنشائها، بل أدت- لفترة طويلة- أحد الأدوار القيادية فيها، معتبرةً إياها أسس نظام عالمي عادل: الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا– أصبحت طاقات هذه المنظمات وقدراتها موجهة الآن ضد روسيا. حتى المشاركة المادية للممثلين الروس في منتديات هذه المنظمات تعتمد على قرارات السلطات الأمريكية والأوروبية. يتعرض وضع روسيا- بوصفها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي- للهجوم، ويتم التحايل على حق النقض لروسيا في مجلس الأمن من خلال إحالة الأمور إلى الجمعية العامة.
أظهر الردع النووي، الذي اعتمدت عليه القيادة الروسية ضمانًا لحماية المصالح الحيوية للبلاد بشكل موثوق به من التعديات الخارجية، عدم كفاءته. لم تمنع تحذيرات رئيس روسيا من أخطر العواقب على الدول الغربية في حال تدخلها في الصراع الأوكراني المشاركة النشطة والفعالة للولايات المتحدة ودول الناتو في تسليح الجيش الأوكراني وتدريبه، وتقديم معلومات استخبارية إلى كييف في الوقت الفعلي، إلى جانب المساعدة المالية والاقتصادية والتقنية الواسعة النطاق- في الواقع، تدخل الغرب في كل مسار الحرب بكامل قوته، باستثناء عدم إرسال قواته المسلحة إلى أوكرانيا. إضافة إلى ذلك، فإن تصريحات المسؤولين الروس التي تشير إلى الإمكانات النووية لروسيا، وتدريبات القوات النووية الإستراتيجية، فُسرت على نطاق عريض في الغرب، وفي جميع أنحاء العالم، على أنها دليل على استعدادات موسكو لشن حرب نووية. ومن المفارقات أن هذه الحملة الإعلامية مع ذلك لم تؤد إلى احتجاج شعبي في الغرب ضد التهديد النووي، وتدعو إلى ضرورة إنهاء الدعم العسكري لأوكرانيا. إن عامل الخوف الذي كان موجودًا في الوعي العام للدول الغربية، وخاصةً الأوروبية منها، خلال سنوات الحرب الباردة، قد توقف عمليًّا عن أداء دور مهم.
لم تعد حرب الناتو بالوكالة مع القوة النووية العظمى، روسيا، ينظر إليها على أنها شيء خطير بشكل جاد في الولايات المتحدة وأوروبا. الأسباب واضحة: يعد قرار القيادة الروسية شن ضربة نووية على الولايات المتحدة، أو دول الناتو، غير محتمل بسبب الطبيعة الانتحارية الواضحة لهذا القرار، وسيكون لاستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا عواقب محدودة، ويمكن استخدامها لفضح روسيا كعدو للبشرية جمعاء. إضافة إلى ذلك، وهذا يبدو مذهلاً، فإن القصف المنهجي من جانب القوات الأوكرانية لمحطة الطاقة النووية في زابوريجيا، التي تسيطر عليها روسيا، لا يلقى أي رد فعل من الجمهور الغربي، ودور أوكرانيا في هذه الحالة على عكس الفطرة السليمة، يتم إخفاؤه. أكثر من ذلك، حتى المنظمة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) تمنح التغطية بشكل أساسي للجانب الأوكراني، الذي يعرض الأمن النووي لأوروبا للخطر.
الاستفزازات ضد روسيا لا تنتهي عند هذا الحد. بالإضافة إلى الحوادث المحتملة مع الوقود النووي المستهلك، التي يمكن أن تثيرها أوكرانيا والغرب، هناك خطر الاستفزاز بالأسلحة الكيماوية والمواد البيولوجية. إن تجربة الحرب في سوريا، والسيطرة الكاملة للدول الغربية على منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW)، تخلق تهديدًا حقيقيًّا بالاستفزازات التي يمكن تحميل روسيا مسؤوليتها. خطر محتمل آخر هو حوادث قصف الأراضي أو المنشآت والمنصات العسكرية (طائرات أو سفن) لدول الناتو، التي تنظمها أوكرانيا، وستحاول كييف إلقاء اللوم فيها على روسيا، كما حدث بالفعل في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، على الأراضي البولندية المتاخمة لأوكرانيا. قد يكون الغرض من هذه الاستفزازات هو تصعيد الصراع إلى صدام عسكري مباشر بين الناتو وروسيا.
لقد تم تدمير العلاقات الاقتصادية بين روسيا والغرب، وبدأت حرب العقوبات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد الاتحاد الروسي في عام 2014، وتكثفت باطّراد منذ ذلك الحين، لكنها تصاعدت عام 2022، إلى حرب اقتصادية ونقدية ومالية شاملة. نتيجة لذلك، تبين أن النموذج الجغرافي الاقتصادي الذي اتبعته موسكو منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، عبر الانتقال إلى علاقات السوق، قد انهار في الجزء الأكثر أهمية منه (العلاقات مع الغرب)، الذي كان الشريك التجاري والاستثماري والتكنولوجي الرئيسي. واجهت روسيا شيئًا آخر لم تكن تتوقعه قط: “تجميد ومصادرة احتياطيات النقد الأجنبي السيادية، وأصول رواد الأعمال من القطاع الخاص، وفي الواقع الاستبعاد الكامل من نظام المعاملات المالية مع العملات الغربية”. نتيجة لذلك، لم تفقد الدولة نصف احتياطيات البنك المركزي فحسب؛ بل خسرت أيضًا إمكانية الوصول إلى الأسواق الغربية؛ ومن ثم فإن توقع أن اللاعبين الاقتصاديين الغربيين، الذين يعملون لمصالحهم الخاصة، سوف يخففون من عواقب الصدامات الجيوسياسية، لم يتحقق.
كانت خيبة الأمل المؤلمة لموسكو بشكل خاص هي انهيار علاقات الطاقة مع أوروبا. هذه العلاقات، التي أنشأتها ورعتها القيادة الروسية على مدى خمسين عامًا، بما في ذلك خلال فترة الحرب الباردة، وكانت تُعد ضمانة لاستقرار العلاقات بين روسيا وأوروبا- على عكس العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث لم يكن هناك شيء من هذا القبيل. حاولت روسيا بكل طريقة ممكنة ترسيخ صورتها كمورد طاقة موثوق به جدًّا لدول الاتحاد الأوروبي، وانطلقت أيضًا من الافتقار إلى البدائل لإمدادات الغاز الروسي إلى الدول الأوروبية. اعتمد الكثيرون في موسكو على حقيقة أن سلاح الطاقة الروسي- صمام الغاز- سيمنع أوروبا من الانفصال عن الاتحاد الروسي. فشل هذا الرهان أيضا. اعتُمِدَت قرارات الاتحاد الأوروبي بما يتماشى مع المنطق السياسي البحت، برفض واردات النفط والفحم الروسي، والتقليل التدريجي لواردات الغاز؛ مما أدى إلى كسر أهم الروابط المادية بين روسيا وأوروبا. أصبحت خطوط أنابيب الغاز نورد ستريم، نتيجة التخريب في سبتمبر (أيلول) 2022، “رمزًا لانهيار العلاقات”.
في هذا الصدد، كان الحدث الأكبر للجغرافيا السياسية في أوروبا هو التفكيك المتسارع للشراكة الألمانية الروسية التي نشأت على أساس المصالحة الكبيرة دون أي تكامل مؤسسي، بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك على الدور الذي أدّاه الاتحاد السوفيتي في قضية توحيد ألمانيا بعد نهاية الحرب الباردة. عادت العلاقات بين موسكو وبرلين إلى العداء مرة أخرى: “في ذهن الجمهور الألماني، تُستعاد صورة روسيا المتخلفة والرجعية والعدوانية بسرعة، وفي روسيا على خلفية صورة الأسلحة التي قدمتها ألمانيا إلى أوكرانيا، تُستعاد ذكريات الغزو النازي مرة أخرى”. تخدم العلاقة المسمومة بين أكبر لاعبين في أوروبا المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لكنها تتحول إلى عامل مهم لعدم الاستقرار في أوروبا مستقبلًا.
أصبحت العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا، اختبارًا ليس فقط لخصوم روسيا والدول المحايدة سابقًا؛ ولكن أيضًا للحلفاء الرسميين لموسكو. كشفت هذه الأحداث عن الوضع الحقيقي للأمور، الذي لم يكن من المعتاد الحديث عنه علنًا. من بين جميع حلفاء الاتحاد الروسي في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، انحازت بيلاروس فقط إلى جانب موسكو، وقدمت لها دعمًا حقيقيًّا. اتخذ جميع الحلفاء الآخرين، وكذلك الشركاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، موقفًا محايدًا. كان دافعهم الرئيسي هو تجنب إفساد العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب بأي شكل من الأشكال، والاستفادة من تركيز موسكو جهودها على أوكرانيا لزيادة تنويع السياسة الخارجية، والاستمرار في إبعاد أنفسهم عن روسيا. يثير هذا الوضع تساؤلًا لموسكو عن مستقبل مقارباتها لمشكلات التحالف والاندماج مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
أدى عدم قدرة روسيا على الحسم العسكري في أوكرانيا إلى خفض تقديرات القوة العسكرية الروسية في كثير من الدول الأوروبية.
سلطت هذه الأوضاع الضوء على مشكلات خطيرة في الإستراتيجية والتكتيكات السياسية والعسكرية الروسية: “في تدريب القوات المسلحة وتسليحها وتجهيزها، وفي جاهزية البلاد للتعبئة، بما في ذلك الصناعة، وفي المكون الأيديولوجي لسياسة الدولة، وفي سلوك جزء من النخب والمجتمع”. هذه المشكلات وغيرها معًا، حتى يتم التغلب عليها، ستتعرض عزيمة الحلفاء للتثبيط، وسيتشجع أكثر خصوم روسيا على تحديد أهداف أكثر حسمًا وصولًا إلى “الحل النهائي للمسألة الروسية” من خلال إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا، ثم الدعوة فيما بعد إلى تغيير النظام السياسي في الدولة، مع نزع السلاح اللاحق (بما في ذلك نزع السلاح النووي)، والإصلاح الجغرافي والسياسي، وإعادة التثقيف وتغيير النخب؛ ونتيجة لذلك، التهميش العام لروسيا، أو ما سيصبح نتيجة لذلك في الساحة الدولية.
في ظل هذه الخلفية من الكوارث، والعيوب، والتصدعات الجيوسياسية الخطيرة، أصبح موقف الكثير، بما في ذلك أكبر دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، هو الموقف الإيجابي الأكثر أهمية لوضع روسيا الدولي. الصين والهند وتركيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبرازيل وجنوب إفريقيا وإندونيسيا، التي تسعى جاهدة إلى تعزيز سيادتها وزيادة دورها في الحوكمة العالمية، اتخذت موقفًا محايدًا رسميًّا في الصراع بين الغرب وروسيا. في بعض الحالات يكون هذا الموقف حياديًّا في إطار إيجابي، أو لطيفًا بشكل واضح تجاه موسكو، ولكن في جميع الحالات، بما في ذلك حالة تركيا، العضو في الناتو وحليف الولايات المتحدة، فإنه يخدم مصالح روسيا بشكل موضوعي.
هذه المجموعة من الدول التي رفضت الانضمام إلى العقوبات المناهضة لروسيا (مع أنها أيدت جزئيًّا القرارات السياسية التي تدين تصرفات روسيا) يُشار إليها الآن بشكل متزايد على أنها الأغلبية العالمية. بالطبع، هذه الأغلبية غير متجانسة، خصوصًا أن مصالح الدول تختلف اختلافًا كبيرًا، وكذلك يختلف حجم العلاقات مع الاتحاد الروسي ونوعيتها: “هناك صعوبات وتناقضات، وحتى عناصر من التنافس، ولكن بشكل عام، أصبحت الأغلبية العالمية موردًا مهمًّا وقيِّمًا للسياسة الخارجية الروسية الحديثة”. لم يكن لدى الاتحاد السوفيتي مثل هذا المورد المحتمل القوي خلال الحرب الباردة.
تذكر أنه في ذلك الوقت كان على موسكو أن تنفق الموارد، وأن تبذل جهودًا كبيرة لإبقاء بلدان أوروبا الشرقية تدور في مدارها، حيث كان لدى دولتين فقط – جمهورية ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا – إمكانات صناعية وتكنولوجية متطورة. من ناحية أخرى، كانت الصين خصمًا لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية لمدة ربع قرن. كانت الهند للتو تضع الأساس للصناعات الثقيلة الحديثة، وكانت إيران قبل الثورة الإسلامية حليفة للولايات المتحدة، وبعدها اعتبرت الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة “دولًا شيطانية”، وكانت تركيا وإسرائيل والمملكة العربية السعودية عناصر مهمة في نظام الاحتواء الجنوبي للاتحاد السوفيتي، في حين كانت البرازيل حليفًا مخلصًا لواشنطن، وجنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري، مشاركة في حروب غير معلنة مع الأنظمة الموالية للسوفيت في إفريقيا؛ لذا فقد تغير وضع السياسة الخارجية لروسيا تغيرًا كبيرًا، لكنه ليس ميئوسًا منه بأي حال من الأحوال. لا يوجد طريق للعودة. بدلاً من ذلك، من الناحية النظرية، هناك طريق للاستسلام، لكنه لن يعيد روسيا سواء إلى يوم 20 فبراير (شباط) أو عام 2013؛ بل إنه الطريق نحو كارثة وطنية، وفوضى محتملة، وفقدان مطلق للسيادة. إذا كنا لا نريد فقط تجنب هذا السيناريو؛ ولكن الوصول إلى مستوى أعلى نوعيًا من التفاعل مع العالم الخارجي، فإن اتجاهنا العام للحركة هو فقط إلى الأمام، إن حل مشكلة أوكرانيا شرط لا غنى عنه للنجاح.
يجب علينا النظر في جميع الخيارات لعدم خسارة الحرب الحالية. نعم، كانت هناك مثل هذه الحروب في التاريخ الروسي التي لم ننتصر فيها- على سبيل المثال، حرب القرم (1853-1856) والحرب الروسية-اليابانية (1904-1905)؛ مما أدى إلى إصلاحات داخلية ومزيد من التطور. كما كانت هناك حروب فاشلة وهزائم جرى الخروج منها بأقل الخسائر:” أنقذت معاهدة بريست ليتوفسك (1918) قوة البلاشفة، وأنهت معاهدة ريغا (1921) الحرب السوفيتية- البولندية الفاشلة، بل رسخت الاستقرار على الحدود الغربية لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الذي كان قيد الإنشاء؛ أصبح الثمن الباهظ الذي دُفِعَ مقابل الانتصار في الحرب الفنلندية (1939-1940) أول مساهمة في النصر في الحرب الوطنية العظمى (1941-1945)”. مع ذلك، وفي ظل الظروف الحالية، يجب على أولئك الذين يأملون في روسيا بتكرار سيناريو (1855-1856)، حين قام الإمبراطور ألكسندر الثاني بإصلاحات جذرية في التعليم، والحكومة، والقضاء، والجيش، على وقع الهزيمة في حرب القرم، أن يتذكروا دائمًا مأساة (1916-1917)، حينما اندلعت الثورة الروسية.
لكن تجنب الهزيمة لا يعني الفوز. إن خيار “تجميد” العمليات العسكرية على طول خط المواجهة سيعني اعتراف موسكو بعدم قدرتها على تحقيق الأهداف المعلنة للعملية العسكرية الخاصة، أي هزيمتها الأخلاقية. إضافة إلى ذلك، فإن هذا “التجميد” لن يكون سوى فترة راحة قبل استئناف العمليات العدائية على الأرجح من جانب العدو، الذي لن يتخلى عن أهدافه القصوى. ومع ذلك، فإن هذا الخيار موجود، ويمكن الحكم عليه من جانب الأطراف المعنية.
هناك أيضًا خيار النجاح الإستراتيجي. نحن هنا لا نستخدم كلمة “انتصار” عمدًا، حيث بدأت هذه الكلمة في الوعي الجماعي المحلي بعد عام 1945 تعني الهزيمة الساحقة للعدو، واستسلامه الكامل وغير المشروط. فيما يتعلق بالوضع في أوكرانيا، يمكن اعتبار سيطرة روسيا على الأجزاء الشرقية والجنوبية والوسطى بكاملها من الدولة المجاورة، نجاحًا إستراتيجيًّا. لا يمكن من حيث المبدأ دمج الجزء الغربي من أوكرانيا، الذي ظل خارج السيطرة الروسية، وخارج الفضاء الحضاري الروسي؛ لذا سيصبح جسمًا غريبًا فيه، ومصدرًا لعدم الاستقرار.
في الواقع، ستصبح غاليسيا وفولين، إذا تركت جانبًا، حتمًا معقلًا للتطرف القومي الأوكراني، ونقطة انطلاق للوجود والنفوذ الغربيين، لكن هذا المعقل لن تكون له كتلة حرجة لتهديد روسيا بشكل خطير. سيعتمد النجاح الشامل للسياسة الروسية في الاتجاه الأوكراني- إلى حد حاسم- على تعزيز الإنجازات العسكرية من خلال التكامل السياسي، والاقتصادي، والأيديولوجي للأراضي الخاضعة للسيطرة مع روسيا. سيتطلب هذا الخيار موارد ضخمة، وجهودًا مركزة على مدار سنوات كثيرة، ومع الأسف، الكثير من التضحيات، ولكن من الناحية الإستراتيجية، سيمكننا هذا الخيار من الفوز.
إن أي حل للصراع الأوكراني لن يعني إرساء الوضع الراهن المستقر في أوروبا الشرقية. الضغط على روسيا من الغرب في الاتجاه الأوروبي سيستمر في عدة اتجاهات. بالإضافة إلى أوكرانيا نفسها، التي ستظل النقطة المؤلمة الرئيسية، سيكون مثل هذه هي الاتجاهات في بيلاروس، وترانسنيستريا، وكالينينغراد، والقوقاز. للبقاء على قيد الحياة، سيتعين على موسكو تعزيز موقعها على طول الخط الكامل للجبهة الجيوسياسية الغربية من القطب الشمالي إلى البحر الأسود.
لمحاولة الخروج من النظام العالمي المتمحور حول الولايات المتحدة، وحماية مصالحها الأمنية الأساسية، تم “إخراج” روسيا فعليًّا من هذا النظام. في ظروف بداية الاضطرابات العالمية- ليس فقط في الجغرافيا السياسية، ولكن أيضًا في الجغرافيا الاقتصادية، وفي المجال العسكري- لم يعد لروسيا أي مصلحة، أو فرص خاصة للحفاظ على الوضع الراهن في أوروبا، وفي العالم ككل. الدولة التي كانت ذات يوم أحد الأوصياء والركائز الداعمة للنظام الذي تأسس عام 1945، تحولت الآن إلى دولة مقاتلة تدافع عن سيادتها وهويتها، وتقاتل من أجل نظام عالمي يقف في وجه هيمنة الدولة الواحدة. هذا دور جديد يعيد إلى الأذهان دور روسيا الثورية، لكنه مختلف تمامًا عنه. لن يكون تعلم كيفية أداء هذا الدور بنجاح أمرًا سهلًا.
سوف يستغرق الانتقال إلى نظام عالمي جديد حقبة كاملة، وسيعتمد- إلى حد كبير- على نتيجة التنافس بين القوتين العالميتين الرائدتين- الولايات المتحدة والصين. حتى الآن، من المرجح أن تصحح دول مجموعة البريكس (الصين، والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا) ودول أخرى ذات أغلبية في العالم، النظام العالمي، وليس استبداله جذريًّا، ناهيك عن كسره. ومع ذلك، فإن هذا الوضع المرن، والصراع بين روسيا والغرب، له تأثير كبير في تطوره. إن العزلة الشديدة مع الغرب ستصاحبها تنمية فاعلة للتعاون مع دول الأغلبية العالمية، وتقارب مع قادتها.
لن يكون هذا الأمر سهلًا؛ لذا تجدر إعادة النظر في الموقف تجاه الاستقرار الإستراتيجي. هذا المفهوم لا يتطابق مع العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، وأكثر من ذلك أنه لا يمكن اختزاله في مجموع التفاهمات والاتفاقيات مع واشنطن. إن مفتاح الاستقرار الإستراتيجي لروسيا هو تطوير إمكاناتها الخاصة في مجالات مختلفة، ويمكن أن تكون الاتفاقات مع الولايات المتحدة- إن وجدت- مجرد إضافة إلى هذه الإمكانات بالنظر إلى الدرجة العالية من عدم الثقة بين الأطراف. كما أن هناك حاجة إلى دراسة متأنية لمشكلة عدم انتشار الأسلحة النووية. على أي حال، لا يمكن لروسيا أن تتصرف بما يتماشى مع مقاربات حظر الانتشار النووي الأمريكية تجاه إيران وكوريا الشمالية.
تبدو آفاق العلاقات مع دول الأغلبية أكثر إثارة للاهتمام ومثمرة. يتطلب الحفاظ على الاستقرار الإستراتيجي في البيئة الجديدة مشاركة أوثق مع الصين، وحوارًا أعمق مع الهند. من الآن فصاعدًا، يجب معالجة قضايا أمن الطاقة مع الصين والهند باعتبارهما أكبر مستهلكين، وتركيا كمركز غاز ناشئ، والمملكة العربية السعودية ودول أخرى في “أوبك بلس” فيما يخص سوق النفط، وقطر فيما يخص الغاز. يقع المستهلكون الرئيسيون للأغذية الروسية أيضًا في الشرق الأدنى والأوسط وآسيا وإفريقيا. في مجال التكنولوجيا، قد تكون الصين والهند شريكين رئيسيين.
في إطار العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف- في إطار منظمة شنغهاي للتعاون ودول البريكس وغيرها- تحتاج روسيا إلى بناء عناصر نظام عالمي انتقالي في المجال النقدي والمالي من أجل الابتعاد عن الهيمنة الأمريكية على الدولار والتكنولوجيا لتعزيز السيادة الوطنية، والحد من هيمنة وسائل الإعلام الأنجلو أمريكية. يتمثل أحد التوجهات المهمة- بشكل خاص فيما يتعلق ببناء أسس نظام عالمي انتقالي- في تعزيز المنظمات الدولية للبلدان غير الغربية، وزيادة فاعليتها وتأثيرها، وكذلك بناء أنظمة أمنية إقليمية في أوراسيا ككل، في آسيا الوسطى، في القوقاز وبحر قزوين، والخليج العربي، ومناطق أخرى.