كم يبلغ عمر النظام العالمي الحديث؟ يميل علماء العلاقات الدولية إلى تأريخ بداية مجال دراستهم بحوالي 500 عام، عندما بدأت بعض الدول في أوروبا الغربية في إنشاء مستعمرات في أفريقيا وآسيا والأميركتين.
من وجهة نظرهم، فإن التحولات التي أطلقها الاستعمار الأوروبي جعلت العالم على ما هو عليه اليوم، وأسهمت في تشكيل العالم الحديث -أيضًا- صلح ويستفاليا عام 1648، وهما معاهدتا سلام وقّعتهما القوى الأوروبية المتناحرة، وانتهت بهما سلسلة من الحروب الدموية.
المركزية الأوروبية
لا تزال هذه النظرة الأوروبية تجاه الماضي تشكّل الطريقة التي يرى بها معظم علماء العلاقات الدولية العالم. عند البحث عن التاريخ المتعلّق بأحداث العالم اليوم، نادرًا ما ينظر باحثو العلاقات الدولية إلى ما وراء النظام العالمي الأوروبي، الذي بُني بعد عام 1500م.
وقبل ذلك التاريخ، يعتاد الباحثون على القول إن السياسة -بشكل عام- لم تكن تُمارس على نطاق عالمي، ويقولون إن الدول خارج أوروبا لم تلتزم بقواعد ويستفاليا، وهكذا يتم تهميش رواية الكثير من البلدان، نتيجة نظرة علماء العلاقات الدولية لمساحات شاسعة من التاريخ، وكأنها غير ذات صلة -إلى حد كبير- بفهم السياسة الحديثة.
ويقول الكاتب -أستاذ التاريخ بجامعة ييل ومؤلف كتاب “عام 1000: عندما اتصل المستكشفون بالعالم- إن التركيز الحصري على عالم يهيمن فيه الأوروبيون المسلحون بالبنادق والمدافع على الشعوب المختلفة التي واجهوها، يغيب عنه الكثير مما جرى خارج أوروبا والأماكن التي استعمرها الأوروبيون. هذا التركيز يعيد سرد التاريخ بطريقة مقلوبة تبدأ بأسبقية الغرب، كما لو أن كل ما حدث من قبل أدى حتمًا إلى هيمنة حفنة من دول أوروبا وأميركا الشمالية.
“قبل الغرب”
في كتابها الجديد “قبل الغرب: صعود وسقوط أنظمة العالم الشرقي” (كامبريدج 2022) تقترح أستاذة العلاقات الدولية في جامعة كامبريدج عائشة زاراكول طريقة بارعة للخروج من هذا المأزق الفكري، إذ تحلّل تجربة الإمبراطوريات غير الغربية السابقة التي سعت إلى إنشاء أنظمة عالمية.
وتحاول زاراكول بذلك تقديم تاريخ جديد للعلاقات الدولية يتجاوز النظام الوستفالي، وتكشف دراستها عن الطرق الواضحة التي تفاعلت بها الأنظمة السياسية في الأجزاء غير الغربية من العالم مع بعضها البعض في الماضي، وتستفيد من ذلك في كيفية فهم القادة السياسيين المعاصرين للنظام الدولي اليوم.
يتحدّى كتاب زاراكول الرأي القائل بأن النظام الدولي الحديث بدأ عام 1648، بدلًا من ذلك، اقترحت بديلًا مثيرًا للقارئ، إذ يرجع تاريخ بداية النظام العالمي الحديث -وفق كتاب زاراكول- إلى عام 1206، عندما كان إمبراطور المغول جنكيز خان حاكمًا معروفًا لجميع شعوب السهوب الأوراسية (منطقة تمتدّ من غرب الصين حتى شرق أوروبا)، ودرس الكتاب “النظام الجنكيزي” الذي خلقه هو وخلفاؤه المتنوعون.
وإذ تقدم الأطروحة فكرة مثيرة ومبتكرة لكنها تتجاهل بعض المصادر الأساسية المهمة حول الدبلوماسية في إمبراطورية المغول. مثل هذه الأدلة ستزيد من حدة روايتها لكيفية تفاعل المغول وخلفائهم على وجه التحديد مع دبلوماسيين من الدول المجاورة في هذا النظام العالمي القديم.
ورغم وجاهة هذا النقد، لكن زاراكول محقّة في الإشارة إلى أهمية النظام الجنكيزي كتاريخ مواز للنظام الوستفالي. فابتداء من القرن الـ13 تحت حكم جنكيز خان وخلفائه، أنشأ المغول أكبر إمبراطورية في العالم، والتي امتدّت عبر السهوب من المجر إلى الصين. كان جنكيز خان يطمح إلى حكم العالم بأسره، وأقام علاقات دبلوماسية مع جيرانه على هذا الأساس.
ولم يتمكّن أي أحد من خلفائه من السيطرة على مساحة كبيرة، ولكن مع أخذ المغول الأوائل نموذجًا لهم، فإنهم سيخلقون إمبراطوريات مينغ (أباطرة الصين من سلالة هان)، سلطنة مغول الهند، والصفوية، والتيمورية، على التوالي، في كل من الصين الحالية والهند وإيران وأوزبكستان.